العرب بيوكلوا بطاطا | قصّة

Getty

 

لمّة عائليّة مكتملة الأركان بطرفَي العمومة والخؤولة، ونمطيّة بتوزيع الأنشطة: الرجال كبارًا وصغارًا يعاقرون شؤون السياسة، النسوة من قواعدهنّ إلى صباياهنّ يتعاطَين ’علم‘ الاجتماع. وكما جرت العادة يتوزّع الفريق الأخير النسويّ على موضعين: المجلس والمطبخ.

وكما جرت العادة، أيضًا، جدّتي لأمّي تجلس في تلك النقطة الواصلة والفاصلة بين ركن الرجال وركن النساء، منخرطة في الروحانيّات، مُبدئة ومعيدة حمدها وشكرها، تسبيحها واستغفارها، حسبنتها وحوقلتها، على خرزات سبحتها السوداء؛ ذات السبحة الّتي لطالما عرفت وعرفنا أنّها عزيزة عليها، ولطالما جهلت وجهلنا سبب تلك المعزّة، أو ربّما لو بادر أحدنا بالسؤال لم تكن جدّتي لتبخل علينا بالإجابة.

أمّا الفئة الخارجة عن أطر التصنيفات؛ وأعني هنا الأطفال، فكانوا أيضًا خارج أطر الأركان والمواضع. هم في اللاركن واللاموضع؛ لأنّهم في كلّ الأركان وكلّ المواضع. تجدهم في أرجاء منزلنا يعيدون ويبدؤون دورة تلو أخرى؛ من لعب وصراخ وشجار وبكاء، وصمت ومصالحة ولعب وصراخ... بلا نهاية.

وبالعودة إلى الفئات المؤطّرة، فقد كان الإطار الجامع للأفرقة المختلفة في المجلس في هذه المرّة، راهنيّة قصف جديد على قطاع غزّة. العيون لا تنفكّ تحدّق بشاشة التلفاز: فضائيّة «الجزيرة»... البثّ الحيّ للموت.

وكلّما طالعنا عاجلًا مستجدًّا بارتقاء أحد - أو عديد - الشهداء والشهيدات، أخذ الرجال يلعنون المعتدي الإسرائيليّ المحتلّ، والمتخاذل الشقيق عربه ومسلمه، والمتقاعس العالميّ الصديق، وأخذت النسوة يتحسّرن على مَنْ خلّفه الشهيد والشهيدة من أحياء: الأرامل، والأب المفجوع، والأمّ الثكلى، والطفل، والرضيع الميتّم، وكلّ حبيب أمسى بلا أحبّة. أمّا جدّتي فتجد السلوى في تضرّعها والتماسها رحمة الله بالأموات والأحياء على حدّ سواء.

شعوريًّا وفعلًا وانفعالًا، لم أعرف بالضبط أين مكاني في هذه التراتبيّة وتوزيع الأدوار وحدود الأطر. كنت مشدودة بشكل خاصّ لانفعالات عمّي الأعلى صوتًا، والأشدّ تفاعلًا مع سيل الصور والمشاهد وشريط عاجل المستجدّات: "وبعدين؟ ضلّ إشي ما جرّبوه في هالشعب المسكين؟ ضرب من كلّ محلّ... أرض، بحر، جوّ... ضرب من كلّ نوع... مطّاطي، حيّ، ناري، عنقودي، فسفوري... وين العالم؟ هسّة بطّلوا يقشعوا؟ هسّة بطّلوا يسمعوا؟ أمّا إذا ولد من غزّة طيّر طيّارة ورق بقولوا إرهاب وبقولوا شو ذنب أطفال إسرائيل ينحشروا في الملاجئ؟ وبقرقعونا بحقوق الإنسان وحقوق الأطفال وحقوق الحيوان وحقوق الزفت... حقّ اللّي يحقّهم... ومية محق اللّي يمحقهم...".

وفي لحظة وجدتني أبادره بالسؤال جادّةً: "لمّا تحكي العالم، مين قصدك؟ كلّ العالم؟ مع موزامبيق وهاييتي؟".

ما تبع ذلك كانت الثواني الوحيدة الّتي حوّل فيها عمّي نظره عن شاشة التلفاز. لا أدري أكان الداعي الجلل إلى تلك الالتفاتة السؤال أم السائل. ردّه لم يسعفني في تحديد أيّهما أغضبه حقًّا أو أكثر: "إنتي إيش فهّمك في السياسة؟ روحي عالمطبخ ساعدي أمّك ومرة عمّك بتحضير العشا!".

اعتراني شعور بفداحة ما قلت أو ما فعلت، وإن عييت في تحديد القول أو الفعل أو سبب فداحته. بحثت عن عينَي أبي طلبًا للعون، أو لربّما الغوث، وجدتهما، قرأت في تجاعيد زواياهما ابتسامة خفيّة كانت كافية لتبديد هول الفداحة، أو احتوائها، أو ربّما لتقليلها. إذن، ليس بالحدث الجلل، حيث قال أبي مستدركًا: "خذي هاي الكاسة معك ودّيها عالمطبخ". تناولت كأس النجاة، وأسرعت خارجة من المجلس.

في المطبخ، كانت أمّي تضع اللمسات الأخيرة على العشاء. ناولتني المفرش: "افرشيه وتعالي ناقلي الصحون. ضلّ أحضّر الشاي".

كان العَود من المطبخ إلى المجلس طويلًا وثقيلًا على نفسي. كنت أقلّب في رأسي سيناريوهات متعدّدة لاستئناف ما انقطع من انفعال قبل دقائق. قرّرت أنّ الأفضل أن أمسك لفافة المفارش بكلتا اليدين للأمام؛ مبرّرًا مرئيًّا لعودتي من منفى المطبخ. تفحّصت اللفافة فوجدتها نحيلة وهزيلة، وقد لا تُلاحَظ من فَور. سحبت المفرش من اللفافة، وفردته على مدى اتّساعه، وتواريت خلفه. خرخشة المفرش البلاستيكيّ على وهنها قد أمدّتني بعذر صوتيّ يبرّر عودتي إلى المجلس، محصّنة بذلك الدرع البلاستيكيّ دخلت المجلس.

لم يُعِرْني أحدهم أيّ اهتمام!

الأمن مستتبّ. جيّد! رائع! بل أكثر من رائع!

فردت المفرش، وعدت إلى المطبخ عدوًا، ناولتني أمّي صينيّة مرصوصة بصحون المقالي: بندورة مقليّة، وبطاطا مقليّة، وجبنة مقليّة. وناولت ابنة عمّي صينيّة الغموسات: زيت، وزعتر، ولبن، ولبنة، إلخ. وناديت الأطفال ليساعدوا في نقل صحون المخلّلات وما شاكلها.

دخلت المجلس، وبدأت أفرغ محتويات الصينيّة وأوزّعها. التفت عمّي، وقال: "ناوليني صحن البطاطا، أنا بحبّها سخنة". غمرني الارتياح بطلبه ذاك، وسارعت في تنفيذه... تمّت المصالحة؟ يقينًا!

بدأت أطير متنقّلة بين المطبخ والمجلس حتّى آخر صحن. أخذ كلٌّ مكانه حول المفرش. جاءت أمّي بصينيّة الكاسات. تزامن دخولها مع أحد انفعالات عمّي الغاضبة: "وين العرب عن كلّ هاللي بصير؟ آخ بسّ... آخ... وينهم؟ وين العرب؟". وكان ما زال ممسكًا بصحن البطاطا الساخن، يتناول الأصابع الذهبيّة المقرمشة، فرادى وجماعات. بادرته أمّي مازحة: "وين العرب؟ وين العرب يعني؟ العرب بيوكلوا بطاطا".

التقط عمّي النكتة، وابتسم لها. لم ينهرها كما نهرني، ولم ينفها كما نفاني. التقط الجميع النكتة، وانفجروا ضاحكين، ثمّ سكنوا مطأطئي الرؤوس، وصامتين.

استدارت أمّي إلى المطبخ لتجلب الشاي.

 


 

أسماء حسين

 

 

 

أستاذة مساعدة في قسم الأدب والثقافة الإنجليزيّة في جامعة «غوتنغن» الألمانيّة. مهتمّة في مجال دراسات أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وأدب ما بعد الاستعمار. إضافة إلى تدريسها للمسرح والرواية من القرن السادس عشر وحتّى القرن الواحد والعشرين.